اللّيتورجيّا المارونيّة مصدر هوّيتنا ورسالتنا
في أوّل إطلالة عامّة ليسوع، بعد معموديته في نهر الأردنّ، وصيامه أربعين يومًا في البرّية، دخل ذات سبتٍ إلى مجمع الناصرة، وكشف عن هوّيته ورسالته في نبوءة أشعيا التي تمّت فيه: «روح الربّ عليَّ مسحني (الهوية)، وأرسلني لأبشّر الفقراء، وأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأطلق المظلومين أحرارًا» (الرسالة) (راجع لو 4: 16-1). بهاتين الهوّية والرسالة أشركنا الربّ عبر سرَّي المعمودية والميرون.
المعرفة الأساسيّة في الحياة هي معرفة الإنسان أو الجماعة هوّيته ورسالته، عملًابقاعدة الفلسفة اليونانية على لسان سقراط: «اعرف نفسك». في قيصرية فيلبّس، سأل يسوع تلاميذه: «مَن يقول الناس إنّي أنا ابن البشر؟ وأنتم، مَن تقولون إنّي هو؟» (متى 16: 1 و1).
4. اللّيتورجيّا هي خدمة طقسيّة منظّمة يؤدّي من خلالها المسيحيّون فعل عبادة لله، الذي يواصل في كنيسته ومعها وبواسطتها، عمل فدائنا وقد أتمّه المسيح الفادي. إنَّ الشعبَ المسيحيّ، بقيادة الأسقف أو الكاهن، يقوم بهذه الخدمة الإلهيّة لخيره الرّوحيّ، في مقوّماتها الثّلاثة: الاحتفال بفعل العبادة لله، وإعلان إنجيل الخلاص، وتجسيد المحبّة بمساعدة المحتاجين.
- الليتورجيّا مصدر هوّيتنا
هذه اللّيتورجيّا إيّاها تجسّدت في حياة الكنيسة المارونيّة، وكوّنت هوّيتها ورسالتها، من تقليدها الإنطاكيّ السريانيّ، المميَّز بليتورجيّته ولاهوته وروحانيّته وتنظيمه[ ]. فالليتورجيَّا المارونية أنطاكيّة وأورشليمية المنشأ والانتماء، وسريانيّة الروحانيّة. وقد تطوّرت وتفاعلت في بيئة جبل لبنان، محتفظة بقواسم مشتركة مع الطَّقس الكلداني وطقوس العائلات الليتورجيّة السريانيّة في خطّ مدرسة الرها العريقة، ومع الطقس الرّوماني في بعض جوانبها. كلّ هذه الخصائص تولي كنيستَنا المارونيّة رسالةً مسكونيّة مع الكنائس الشقيقة في القطاعات الراعويّة والروحيّة والثقافيّة
- الليتورجيّا مصدر رسالتنا
7. الحياة الليتورجيّة التي تكوّن جماعة مصلّية بامتياز، تكشف مساحة رسالتنا على المستوى الاجتماعيّ والوطنيّ. فالعلمانيّون المؤمنون بالمسيح المتأصّلون في هذه الجماعة يضفون معنى على انخراطهم في الشّأن العام، حيث يشهدون للإنجيل ويطبعون نشاطاتهم بالفضائل الإلهيّة: الإيمان والرجاء والمحبة، وبالقيم المسيحيّة مثل العدالة والإنصاف والقناعة والتجرّد؛ ويتفانون في خدمة الإنسان والخير العام. ينبغي أن يواظب المسيحيّون الملتزمون الشؤون الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة، على الحياة اللّيتورجيّة، وبخاصّة على القدّاس الإلهي والصّلاة. إنّ القاعدة التي وضعها الربّ يسوع «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» (مر1: 17)، تقتضي منهم أن يتناغموا في حياتهم الخاصّة والعامّة، بين الحقلَين الرّوحيّ والزّمنيّ، ما يجعل هذا التناغم مصدر قوّة روحيّة للأشخاص وللجماعات. فبقدر ما يشارك المؤمن المسؤول في الحياة اللّيتورجيّة، من قداديس وصلوات، بروح إيمان خاشع عميق، وبالتزام كنسيّ ووجدان تاريخيّ، بقدر ذلك نشهد وحدة وقوة وثباتًا في العائلة الكنسيّة. فالليتورجيّا هي الضّامنة للوحدة على المستوى اللّاهوتيّ والكنسيّ والاجتماعيّ؛ والمشاركة الواعية فيها تخلق لدى المؤمنين انفتاحًا حقيقيًّا نحو جميع الناس وتُبعد كلّ أنواع الانغلاق والتقوقع. وبقدر ما يتّحد المؤمن بالله في الصلاة والقربان وسماع الإنجيل والتأمّل، بقدر ذلك ينفتح بمحبّة على جميع الناس، إذ يشاطرهم حاجاتهم وآلامهم ومآسيهم عبر الرّوح الإنسانيّة التي توحّدهم، والتي تتّجه بأسرها نحو الله الواحد خالق الجميع، الذي برحمته يحنو على كلّ إنسان، ويدعوه إلى الحبّ والحياة الوافرة. بذلك تصبح الحياة اللّيتورجية الجماعيّة نشيد المحبة والوحدة والسلام.
. في هذا الإطار، تساهم الحياة الليتورجيّة في بناء وحدة الجماعة المؤمنة، المتكاملة والمتناغمة، الملتزمة بمشروع الإنجيل في الحياة العائليّة والكنسيّة والوطنيّة بديناميّة المحبّة والوحدة والتّضامن، وتعكس صورة الكنيسة وحقيقة شعب الله، حيث الإكليروس والعلمانيّون يساهمون، كلٌّ من موقعه وبموهبته، في الشهادة للمسيح ولإنجيله، أمانةً لثوابتنا الكنسيّة والتاريخيّة.
من أجل ضمانة الوحدة في كنيستنا، ندعو الجميع للمحافظة على الانسجام في العمل الطقسيّ، في كلّ الأبرشيات والرعايا والأديار، بروحٍ كنسيّ عالٍ، ووفقًا للتوجيهات التي تصدر عن لجنتنا البطريركيّة الطقسيّة، ويقرّها سينودس كنيستنا المقدّس. فالليتورجيّا هي ملك الكنيسة لا الأفراد.